Wednesday, April 8, 2009

ثقافة الإدعاء والتظاهر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعترف أمامكم أنني تلكأت كثيرا في كتابة هذا المقال وربما راودتني أفكار إلغائه أصلا وهذا لأسباب عدة منها الخوف من أكون مندرجا تحت ما يأتي فيه ، ومنها أني رأيت أنني لست من أهل التخصص في الحديث في هذا الأمر، ثم ثار في خاطري ثائر حدى بي إلى الكتابة خوفا من كتمان العلم ورهبة من عذاب الله تعالى وما رصدته من إنتشار هذه الظاهرة وسيطرة هذه الثقافة داخل أوساط العاملين للإسلام وحتى في خارجه فيما يخص أمور الدنيا ، وحتى يشترك القارئ معي في تفهم الظاهرة حتى ندلف منها إلى التعميق والتأصيل نقول :
رصدت أول ما رصدت أناسا ليسوا من أهل العلم يدعون العلم ويزاحمون العلماء ، وأناسا ليسوا من أهل التربية يزاحمون المربين ، وأناس ليسوا من أهل القيادة ويزاحمون القادة ، وأناس ليسوا من أهل التحدث في قضية معينة وتجدهم يدلون بدلوهم فيها ويتحدثون حتى يصيرون هم المرجع فيها ، مما يعني إقصاء العلماء على وجه الحقيقة ، والظاهرة في خطورتها هي أن هؤلاء - تعالوا نسميهم " المدعين " - ليست المشكلة في تصدرهم وإنما المشكلة في إزاحتهم لأهل التخصص فيها مما يعني سيادة الجهل والسطحية والقشرية والمظهرية وعدم إصابة الحقيقة
أولا : التعريف بالظاهرة :
هي تعني إدعاء بعض الناس علمهم بمسألة معينة أو علم معين أو تخصص معين والتصدر له على أنهم المرجع والمعلم له مما يدفعه إلى الإدلاء برأيه بغير علم والعصبية لرأية للمحافظة على الصدارة التي حصل عليها ألا وهي الأستاذية المزعومة أمام العامة وأمام الذين لا يعلمون ( هذا في كافة مظاهر الحياة على العموم )
ثانيا : سمات المدعي :
1-تعصبه الشديد لرأيه في المناقشات ولجوءه إلى الآراء الإقصائية بالنسبة للآخر
2-في حديثه حرصه على غريب العلم والنقول الغريبه والأقوال المتقعرة والآراء الشاذة وذلك للفت النظر والإنتباه ، فتجده يحرص على النقول الخاصة بأسماء العلماء الكبار وذكر أسمائهم مع نقوله ليس من قبيل نسب القول إلى قائله وإنما من قبيل إظهار أنه قارئ واسع الإطلاع
3-المسارعة إلى العلوم الحديثة أو الجديدة نسبيا سعيا للتفرد والتميز، فلا يكاد يبرز علم معين إلا وتجده إما دارسا له أو متحدثا فيما يخصه
4- غالبا بعد أن تحصل هذه الشخصيات علما معينا ما تتوقف عن التقدم فيه أو في غيره مكتفيا بأنه عرف عنه أنه يدرس كذا أو قد حصل على كذا
5-تصيده للأخطاء في المناقشات والحوار وإظهار إحتكاره للحقيقة
6-ربما في بعض الحالات الميل للتحدث عن الذات وما حققه من إنجازات
7- التهكم والسخرية على آراء الآخرين
ثالثا: خطورة الظاهرة :
تكمن خطورة الظاهرة فيما يلي :
1-تصدر من لا يستحق وتوليه مكانة ليست له مما يؤثر على العمل تأثيرا سلبيا وقد يودي به بالكلية
2-حبطان العمل بالكلية وذلك لمنافاة هذه الظاهرة للإخلاص
3-تنحية من يستحقون عن الصدارة والقيادة وتولي مقاليد الأمورلأناس لا يستحقونها
4-خطورة على الفرد نفسه - المدعي ذاته - لأنه ربما يكون لا يدري أنه مريض بهذا المرض وهو بهذا يسيئ من حيث يظن أنه محسن وهنا تقع المسؤولية على عاتق المربين بالتبصير بحقيقة هذه الظاهرة فور نشأتها
أعتقد أننا من هذه المقدمة نستطيع أن نبصر أن المدعين موجودون حولنا في كل مكان في العمل وفي الشارع وفي العمل الإسلامي وفي السياسة والإقتصاد وفي كل مظاهر الحياة ولكن كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه " شر الأزمنة أن يتبجح الجاهل ويسكت العاقل ولكن القبة الجوفاء لا ترجع غير الصدى ليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده " قبل أن ننتقل إلى نقطة الأدلة الشرعية نود أن نسوق هذه التفرقة الهامة حتى يكتمل المعنى :
رابعا : الفرق بين الإدعاء والرياء وحب الظهور :
هذان الداءان يشتركان مع بعضهما لبعض في أن كلا منها هدفه صرف الأنظار وجلب الإهتمام وجعل صاحب محل تقدير وإحترام من قبل الناس وهو في الغالب لا يستحقه ، غير أنني أرى أن " الإدعاء " يختلف عن الرياء وحب الظهور في أن المرائي يرائي بعمله ومحب الظهور لديه رصيد من العمل من وجهة نظره هو يستحق به أن يظهر وأن يقدم ، غير أن مرض الإدعاء هذا يكون بالباطل وليس لديه ما يستحق الظهور به وإنما الأمور ربما تكون محض أقوال وإفتراءات ، وإذا كان الرياء في فقه السلف رضي الله عنهم أكبر من أي كبيرة ( راجع في ذلك إحياء علوم الدين ) فإنني أرى أنه لا يقل خطورة عنه وربما يكون حسب المقارنة السابقة أشد خطورة منه لأنه يستحق المقت من الله تعالى
خامسا : الهدف :
أهدف من هذا المقال رصد هذه الظاهرة وفصل معالمها ثم البعد عن أن أكون عليم اللسان فصيح البيان خاوي الأفعال والعياذ بالله أن أفعل خلاف ما أقول فأستحق مقت الله تعالى ، أحذر نفسي وإخواني من تصدر الناس في صورة الأستاذية ونحن لسنا أهل لذلك وقد أحصينا في كتب السلف غير واحد منهم هو في الحقيقة إمام ولكنه يتورع عن التصدر والتحديث والتعليم فما بالنا صرنا على هذا الأمر أجرأ كاننا في مأمن مما كانوا منه يخافون
سادسا : الأدلة :
أولا : القرآن الكريم :
1- يقول الله تعالى في سورة آل عمران {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية : 188
{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} إذا كانت الآية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلفين ؛ لأنهم كانوا يقولون : نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه ، وكانوا يقولون : نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب ؛ يريدون أن يحمدوا بذلك.
2- الآية : [2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}الآية : [3] {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}
أنقل تعليقا من تفسير القرطبي بتصرف على هذه هاتين الآيتين :
وقال الشافعي وعموم الآية حجة لنا ، لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط.
قال النخعي : ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}. وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت" قلت : "من هؤلاء يا جبريل" ؟ قال : "هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون". وعن بعض السلف أنه قيل له : حدثنا ؛ فسكت. ثم قيل له : حدثنا. فقال : أترونني أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله!.
فما بال أحدنا يتصدر الناس واعظا أو خطيبا أو معلما أو مربيا وهو ليس أهلا لذلك ولا يفعل بما يقول بأي دعوى ندعي وبأي ذريعة نتذرع لنطرح عنا هذه الدعوى وتلك الذرائع ويختلي كل واحد منا بنفسه وينظر في أمر فعله أهو له أم عليه
ثانيا الحديث الشريف :
1- الحديث الأصل في هذا الموضوع هو :
حدثني محمد بن المثنى حدثني يحيى عن هشام حدثتني فاطمة عن أسماء أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. رواه البخاري؟ المعنى الظاهر من الحديث هي أن السائلة تقول إن لها ضرة والضرة هي الزوجة الأخرى فهل عليها إثم إن إدعت أو تظاهرت أمامها أن زوجها يعطيها ما لم يعطيها كنوع من كيد النساء فكانت إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ما سمعنا وما قرأنا ، يوضح الإمام النووي رضي الله عنه قال النووي في شرح مسلم عند شرح هذا الحديث: قال العلماء معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور قال أبو عبيد وآخرون هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع ومقصوده أن يظهر الناس أنه متصف بتلك الصفة ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب زور ورياء، وقيل هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له، وقيل هو من يلبس قميصاً واحداً ويصل بكميه كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين، وحكى الخطابي قولاً آخر أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب والعرب تكنى بالثوب عن حال لابسه ومعناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن، وقولاً آخر أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد شهادته لحسن هيئته. والله أعلم. انتهى.
ولقد ناقشت أحد العلماء ذات مرة في هذا الحديث فقال لي إن الإدعاء كذب بالفعل كما هو معروف عن الكذب أنه بالقول
2- قال : (( من تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار )) رواه الترمذي.
3- قال رسول الله : (( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة )) رواه أبو داود
4-عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله قال:((إن من أحبكم إلي ، و أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، و إن أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون ، و المتشدقون ، و المتفيهقون ))، قالوا : قد علمنا " الثرثارون و المتشدقون " فما " المتفيهقون ؟ " قال : ((المتكبرون))
الثرثار: كثير الكلام تكلفا"
المتشدق: المتكلم بملء فمه تفاصحا" تعظيما" لكلامه.المتفيهق: الذي يملأ فمه بالكلام , ويتوسع فيه , ويغرب به تكبرا" وارتفاعا" وإظهارا" للفضيلة على غيره "
5-جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة . . . قال صلى الله عليه وسلم : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال : وكيف إضاعتها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " [ رواه البخاري ]
ثم أليس في تصدر الأدعياء وتنحي الأصلاء توسيد للأمر إلى غير أهله وتضييع للأمانة نسأل الله العافية
6-حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " رواه مسلم
أليس كل دعي في أي مجال رأسا من هذه الرؤوس الجهال
يقول أبو الأسود الدؤلي :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كي ما تصح وأنت سقيم
أبدأ بنفسك فإنهها فإن أنتهت فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
سابعا: أسباب هذا المرض :
1-حب الظهور والرياسة
2- التوسع في فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني ولو آيه " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلزام الأمر مالم يلزم وتوسيع دائرة التبليغ لتشمل الوعظ والفتوى والقول أحيانا بغير علم
3- نقص من يقوم بهذا الأمر حق القيام
4- عدم قيام أهل التخصص الأصلاء بواجبهم حق القيام
5- تقصير تربوي في حق هذه الشخصيات ( المدعين )
6- إستعجال قطف الثمرة قبل نضوجها من قبل المربين
ثامنا : كيف نتخلص وتتخلص من هذه الظاهرة ( العلاج ) :
1- الصدق مع النفس وتحري الإخلاص حيث يقول الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " التوبة
2- الإنصراف إلى الأعمال والتورع عن الأقوال وإيثار ما يبقى على ما يفنى
3- تحري النية وتجديدها قبل كل عمل
4-عدم التصدر للأعمال إلا بعد إجازة أهل الثقة والسبق ، ولعلنا نقرأ في كتب السلف أنه ما جلس أحد منهم للتحدث إلا بعد أن أجازه أساتذته
5-على أهل الثقة السبق مراعاة هذه النقطة جيدا ومراقبة من يضعونه في هذه المواضع وتحصينه تربويا بما يكفى حفظه من هذا المرض
6-توجيه النصح المباشر وغير المباشر كل حسب حالته لمن إبتلي بهذا المرض
تاسعا : خاتمة :
أبرأ إلى الله تعالى في مقالي هذا أن أكون مدعيا للعلم فلست بعالم ولكني مجرد راصد لظاهرة في الحياة الدعوية وفي الحياة العامة وما عزوت الأقوال إلى أصحابها إلا من باب بركة العلم كما يقول القرطبي فمن بركة العلم نسب القول إلى قائله وحسبي في ذلك أنني مجرد ناقل لأقول العلماء وجامع بعضها إلى بعض ، ما بال الزمان يضن علينا بشخص كثابت بن أقرم بن ثعلبة رضي الله عنه يوم مؤته حينما إستشهد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فإلتقط الراية ودفعها إلى خالد بن الوليد وقال له " والله ما إلتقطها إلا لك " ، أخيرا أتمنى ممن قرأ هذا المقال أن يقوم بالتفاعل معه والتعليق عليه حتى لو كان هذا التعليق مخالفا فالآراء يصوب بعضها بعضا
ألا هل بلغت اللهم فأشهد
نلتقي في مرة أخرى بإذن الله تعالى